قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن العبد له مشيئة وهي تابعة لمشيئة الله كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع من كتابه (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ* وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا* وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، فإذا كان الله قد جعل العبد مريداً مختاراً شائياً امتنع أن يقال هو مجبور مقهور مع كونه قد جعل مريداً، وامتنع أن يكون هو الذي ابتدع لنفسه المشيئة. مجموع الفتاوى.
ولا ريب في أن الله أحكم الحاكمين وأن ربنا لا يظلم أحدا، ولذلك فهو لا يجبر الإنسان على الإيمان أو الكفر. وأما الآيات المشار إليها من كونه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهذا حق فإن الله تعالى يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله وهذا كله بحكمته سبحانه، فهذه الآيات دليل على أن مشيئة الله فوق مشيئة عباده، ولكنها لا تنفي وجود مشيئة للعباد؛ بدليل الآيات السابق ذكرها، وإن طلبت دليلا محسوسا على ذلك فقارن بين تحريك الإنسان ليده، وبين ارتعاشها وحركتها لا إراديا، فإنك ستجد فرقا ولا بد، وهذا الفرق هو دليل عدم الجبر، وأن الإنسان له مشيئة، إذا شاء حرك يده وإذا شاء لم يحركها، إلا أن هذا وذاك لا يكونان إلا بإذن الله، فلولا أن الله أذن له بذلك لم يستطع فعله، ولكن هذا لا يعني أنه مسلوب الإرادة والمشيئة، كهذا الذي ترتعش يده دون إرادة منه، والفرق واضح بين الحالين.
فإذا تقرر أن للعبد مشيئة، وأنه ليس مسلوب الإرادة والاختيار، فلا عجب من كونه يجازى على ما يختاره ويفعله. ونحن لسنا مخيرين بإطلاق، كما أننا لسنا مسيرين بإطلاق
قال الشيخ ابن عثيمين: إن للمكلف إرادة واختياراً وقدرة، وإن خالق هذه الإرادة والاختيار والقدرة هو الله عز وجل، فلا يكون للمخلوق إرادة إلا بمشيئة الله عز وجل، وقد قال الله تعالى مبيناً الجمع بين هذه النصوص: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ـ ولكن متى يشاء الله تعالى أن يهدي الإنسان أو أن يضله؟ هذا هو ما جاء في قوله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ـ واقرأ قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ـ تجد أن سبب ضلال العبد من نفسه فهو السبب، والله تعالى يخلق عند ذلك فيه إرادة للسوء، لأنه هو يريد السوء، وأما من أراد الخير وسعى في الخير وحرص عليه فإن الله تعالى ييسره لليسرى، ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار، قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ـ ثم قرأ هذه الآية: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ـ إلخ.
والله أعلم.
Ещё видео!