رد ابن القيم على من فسر الاستواء بالاستيلاء:
قال ابن القيم:في قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] في سبع آيات من القرآن حقيقة عند جميع فرق الأمة إلا الجهمية ومن وافقهم، فإنهم قالوا: هو مجاز، ثم اختلفوا في مجازه، والمشهور عنهم ما حكاه الأشعري عنهم وبدعهم وضللهم فيه بمعنى استولى، أي ملك وقهر، وقالت فرقة منهم: بل معنى قصد وأقبل على خلق العرش، وقالت فرقة أخرى: بل هو مجمل في مجازاته يحتمل خمسة عشر وجها كلها لا يعلم أيها المراد إلا أنا نعلم انتفاء الحقيقة عنه بالعقل، هذا الذي قالوه باطل من اثنين وأربعين وجها:-
أحدها: أن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله: {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14] وهذا معناه كمل وتم، يقال: استوى النبات واستوى الطعام، وأما المقيد فثلاثة أضراب: أحدها: مقيد بإلى كقوله: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه: في البقرة في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] والثاني في سورة فصلت: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف، كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعد إن شاء الله.
والثاني: مقيد بعلى كقوله: {واستوت على الجودي} [هود: 44] وقوله: {فاستوى على سوقه} [الفتح: 29] وهذا أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة، الثالث: المقرون بواو (مع) التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو: استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها، وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها معنى استولى البتة، ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخرو النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية، يوضحه:
الوجه الثاني: أن الذين قالوا ذلك لم يقولوه نقلا، فإنه مجاهرة بالكذب وإنما قالوه استنباطا وحملا منهم للفظة استوى على استولى، واستدلوا بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
وهذا البيت ليس من شعر العرب كما سيأتي بيانه.
الوجه الثالث:
الوجه الخامس: أن هذا تفسير لكلام الله بالرأي المجرد الذي لم يذهب إليه صاحب ولا تابع، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون أقوال السلف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» ".
الوجه السادس: أن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف.
الوجه السابع: أن هذا اللفظ قد اطرد في القرآن والسنة حيث ورد بلفظ الاستواء دون الاستيلاء، ولو كان معناه استولى لكان استعماله في أكثر مورده كذلك، فإذا جاء موضع أو موضعان بلفظ استوى حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود، وأما أن يأتي إلى لفظ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد، فيدعي صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه ففي غاية الفساد، ولم يقصده ويفعله من قصد البيان، هذا لو لم يكن في السياق ما يأتي حمله على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك الوجه الثامن: أنه أتى بلفظة (ثم) التي حقيقتها الترتيب والمهلة، ولو كان معناه معنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السماوات والأرض، فإن العرش كان موجودا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» "، وقال تعالى: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} [هود: 7] فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستول على العرش إلى أن خلق السماوات والأرض.
فإن قيل: نحمل " ثم " على معنى الواو ونجردها على معنى الترتيب.
قيل: هذا بخلاف الأصل والحقيقة، فأخرجتم ثم عن حقيقتها والاستواء عن حقيقته ولفظ الرحمن عن حقيقته، وركبتم مجازات بعضها فوق بعض.
فإن قيل: فقد يأتي " ثم " لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر، فيجوز أن يكون ما بعدها سابقا على ما قبلها في الوجود وإن تأخر عنه في الإخبار.
قيل: هذا لا يثبت أولا ولا يصح به نقل، ولم يأت في كلام فصيح، ولو قدر وروده فهو نادر لا يكون قياسا مطردا تترك الحقيقة لأجله.
فإن قيل: فقد ورد في القرآن، وهو أفصح الكلام، قال الله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف: 11] والأمر بالسجود لآدم كان قبل خلقنا وتصويرنا، قال تعالى: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون} [يونس: 46] وشهادته تعالى على أفعالهم سابقة على رجوعهم.
قيل: لا يدل ذلك على ما تقدم ما بعد (ثم) على ما قبلها، أما قوله: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} [الأعراف: 11] فهو خلق أصل البشر وأبيهم، وجعله سبحانه خلقا لهم وتصويرا إذ هو أصلهم وهم فرعه، وبهذا فسرها السلف، قالوا خلقنا أباكم، وخلق أبي البشر خلق لهم وأما قوله: {فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون} [يونس: 46] فليس ترتيبا لإطلاعه على أفعالهم، وإنما ترتيب لمجازاتهم عليها، وذكر الشهادة التي هي علمه ولإطلاعه تقريرا للجزاء على طريقة القرآن في وضع القدرة والعلم موضع الجزاء لأنه يكون بهما كما قال تعالى: {إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور} [لقمان: 23] وكقوله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} [آل عمران: 165] وقوله: {فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا} [فاطر: 45] وهو كثير في القرآن، وهو كما يقول السيد لعبده: اعمل ما شئت فإني أعلم ما تفعله، وأنا قادر عليك، وهذا أبلغ من ذكر العقاب وأعم فائدة.
Ещё видео!