سماحة الشيخ الدكتور حيدر حب الله
التقليد .. المفهوم، التطور، نقاش الشرعية، وطروحات حديثة (3)
نظريّة التوسّط بين الاجتهاد والتقليد بملاحظة المقدّمات والعدد المعرفيّة (لاريجاني أنموذجاً)
يسهب الفقيه البارز الشيخ صادق لاريجاني (المولود عام 1961م)، في طرح فكرته وفقاً لمقاربات أصوليّة وفقهيّة تخصصيّة بما لا يسمح لنا المجال بطرحها هنا، لكنّه يتوصّل من خلال تحليله الفقهي والأصولي إلى ما يعبّر عنه بنظريّة التوسّط التي طرحها للعلن في العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين.
وقد أثارت هذه النظريّة بعض ردود الأفعال وتخوّف منها فريقٌ على أساس أنّها تفتح الطريق للمثقّفين للتحرّر من مرجعيّة الفقهاء والانفراد باستنتاجات فقهيّة رغم كونهم غير متخصّصين، فيما أصرّ لاريجاني على أنّه لا يستهدف بهذه الفكرة الجامعيّين والمثقّفين، بل فريق داخل الحوزات العلميّة لا هو بالمجتهد الخالص ولا هو بالمقلّد المبتدئ، ويمكن لهذا الفريق الذي يمثل طبقةً وسطى في المجتمع أن يمارس التوسّط بين الاجتهاد والتقليد ويصل لاستنتاجات يعمل بها ولو خالفت رأي مرجعه الذي يقلّده. لكنّنا عندما نقرأ النظريّة بتمعّن ـ بل ندقّق في عباراته نفسها ـ نكتشف أنّها لا تختصّ بالحوزويّين وإن كانوا من أبرز مصاديقها، بل تشمل بعض الجامعيّين أيضاً حسب طبيعة الاختصاصات.
يعتبر لاريجاني أنّ فكرته هنا لها وجود في التراث الأصولي والفقهي سابقاً غير أنّها مهجورة، على أنّ في بعض كلماته اضطراباً هنا بين وجودها وعدم وجودها، فمرّة يوحي أنّها موجودة ومرّة يعطي إيحاء مختلفاً، ولكن عندما نتأمّل في كلامه نكتشف أيضاً أنّه يقصد ـ على الأرجح ـ أنّ مكوّنات هذه النظريّة وعناصرها الاستدلاليّة لها وجود فيما مضى، كما في مثل البحث في موضوع الاجتهاد في المبادئ البعيدة أو في موضوع الاجتهاد المتجزئ أو في موضوع التخيير الأصولي وغير ذلك، غير أنّه قام بتركيبها واستخراج نتائج منها صانعاً أطروحة متميّزة. وسنتعرّض لروح نظريّته بأسلوب مبسّط في البيان بعيداً عن الأخذ والردّ في المناقشات والتعليق على كلام الأعلام.
تتكوّن النواة الصلبة في نظريّة التوسّط هذه من فكرة الجمع بين التقليد والاجتهاد، فكثير من الناس لا يمكنهم تحقيق هذا الجمع، لهذا فإذا لم يجتهدوا أو يحتاطوا فلا سبيل أمامهم إلا محض التقليد، لكن هناك فئة من الناس يمكنها ممارسة جمع ما، بحيث لا يكون هؤلاء مجتهدين بالمعنى الكامل للكلمة، ولا مقلّدين كذلك. والعنصر الجوهري الذي يفتح على هذا التركيب بين الاجتهاد والتقليد هو طبيعة العمليّة الاجتهاديّة نفسها، فهذه العمليّة ليس ذات عناصر محدودة تنتمي لمجال معرفي واحد، بل تتركّب من سلسلة طويلة ومعقّدة من المكوّنات المعرفيّة، وعندما نحللها نجد أنها تنتمي في الكثير من عناصرها لعلوم مختلفة، كما تحتوي على مهارات متعدّدة. فنحن أمام علوم من نوع: العلوم اللغوية والأدبيّة على تنوّعاتها، وعلم التاريخ، وعلم السيرة، وعلم الكلام، وعلم أصول الفقه، وعلم الرجال، وعلم الحديث، وعلوم القرآن، وعلم التفسير، وعلم تاريخ الفقه وسائر العلوم الشرعيّة، وعلم الفقه نفسه وغير ذلك، لهذا يعتبر الاجتهاد الشرعي ملتقى سلسلة من العلوم والموضوعات والمهارات التي باتت اليوم منفتحة على بعض العلوم الإنسانيّة أيضاً، ولهذا حار بعض العلماء في تعريف موضوع علم الفقه لتنوّع شبكته موضوعاته. فالفقيه قد تجده في مورد باحثاً لغويّاً، وفي مورد أخر عالماً أصوليّاً، وفي مورد ثالث مفسّراً، وفي مورد رابع مشتغلاً على معطيات تاريخيّة، وفي مورد خامس عالم حديث ورجال، وهكذا، الأمر الذي يعني ـ نظريّاً حتى الآن ـ أنّ عالم التفسير هو عالمٌ متخصّص بجزء من المعرفة التي تساهم في تكوين الاجتهاد وإنتاج الفتوى، وكذلك عالم الرجال والحديث متخصّص بجزء من المعرفة التي تكوّن منظومة الاجتهاد وهكذا..
وهنا يظهر لاريجاني جوهر فكرته وهو أنّه مع توسّع العلوم هذه يمكننا العثور على شخصٍ متخصّص في علم الرجال ولكنّه غير متخصّص في الاستنباط الفقهي، والعكس صحيح، وهذا ما يعني أنّه من الممكن أن نجد "نصف مجتهد" أو "ربع مجتهدٍ" ـ إذا صحّ التعبير ـ وفقاً لهذا الحساب، وهو ما يسمّيه هو بالمجتهد المتوسّط.
ينتج عن هذه الحقيقة الواقعيّة المعقّدة جملة أمور أو فقل تتجلّى هذه الحقيقة عبر سلسلة نتائج:
1 ـ النتيجة السلبيّة، ومن أمثلتها أنّ مثل هذا الشخص المتخصّص في ضلع من أضلاع المعرفة الاجتهاديّة الشرعيّة، عندما يرى خطأ المرجع الذي يقلّده في مسألة رجاليّة، ويدرك أنّ هذه الفتوى أو تلك بُنيت على هذا الموقف الرجالي، والمفروض أنّه هو متخصّص في علم الرجال وله رأي، ففي هذه الحال له التحرّر من فتواه إلى الفتوى البديلة حتى لو قلنا بنظريّة تقليد الأعلم. وهكذا لو كان لدينا عالم لغة وخبير لغوي متخصّص في اللغة، واطّلع على فتوى مرجعه وأدرك أنّها مبنيّة مثلاً على كون الجملة الإسميّة لا تدلّ على الزمان، وهو يرى بطلان هذا الرأي اللغوي برؤية تخصّصية، فهنا يمكنه ترك تقليد مرجعه، في هذه المسألة، بل يجب ذلك حتى لو قلنا بلزوم تقليد الأعلم.
2 ـ النتيجة الإيجابيّة، وهي تقع على المقلب الآخر، بمعنى أنّه يمكن للمقلّد الذي لا خبرة اجتهاديّة له بأصول الفقه أن يقلّد مرجعه في علم أصول الفقه، ثمّ يذهب فيمارس هو الاستنباط في هذه المسألة أو تلك مبنيّاً استنباطه على قواعد أصول الفقه عند مرجعه. وهنا هو يملك خبرة الممارسة الفقهيّة لكنّه لا يملك خبرة الممارسة الأصوليّة كبعض فضلاء الحوزة، فيقلّد في الأصول، ويمكنه أن يجتهد على أساس هذا التقليد في الفقه ولو في بعض المسائل، وهذا الأمر يفتح الطريق على الكثير من فضلاء الحوزات العلميّة لممارسة نوع من الدمج والتركيب بين التقليد والاجتهاد، ولا يضطرّ الإنسان ـ كي يعتمد على اجتهاده ـ أن يكون مجتهداً مطلقاً في جميع القضايا المتصلة بمبادئ اجتهاده ومختلف عناصر العمليّة الاجتهاديّة.
وهكذا يمكنني تقليد السيد موسى الزنجاني مثلاً في علم الرجال، والاجتهاد مبنيّاً على تقليده، أو تقليد الشيخ جعفر السبحاني في علم ...
Ещё видео!