بمجردِ أنْ نسمعَ مصطلحَ القوةِ العُظمى
يخطرُ ببالِنا فوراً أمريكا
لكنَّ حديثَنا اليومَ عن جهاتٍ أخرى تزحفُ بهدوءٍ نحوَ قمةِ سُلَّمِ النفوذِ العالميِّ لا وَلَاءَ لها لعَلَمٍ مُحدَّدٍ ولا تنتمي لجنسيةٍ بعينِها ستتحَكَّمُ في مفاصلِ الدولِ وتكونُ لها الكلمةُ الأولى في السِّلْمِ والحربِ كيفَ لا وهي تسيطرُ على اقتصادِ العالمِ وتتفوقُ على دولٍ عظمى
لا تتعجبْ
فالشركاتُ العملاقةُ أو المؤسساتُ الاقتصاديةُ
بدأتْ تنافسُ الدولَ العظمى في التحكُّمِ في الكوكبِ
كلُّ هدفِها بَسْطُ نفوذِها على السياساتِ والقوانينِ في جميعِ الدولِ
لتُحَقِّقَ مزيداً من الثراءِ والنفوذِ
صحيحٌ أن الأمرَ الطبيعيَّ أنْ تبحثَ الشركاتُ ورجالُ المالِ عن تحقيقِ الأرباحِ
لكنَّ الأمرَ اليومَ تخطى الأموالَ
وأصبحَ مفهومُ الشركاتِ العابرةِ يمثلُ تحدياً جديداً لتعريفِ القوةِ العظمى
ما هي الشركاتُ العابرةُ للقارات؟
لأعطي مثالاً عليها حتى نفهمَ طريقةَ عملِها
واحدةٌ من تلكَ الشركاتِ تحملُ اسماً غيرَ شهيرٍ رُغْمَ أنها ليستْ جديدةً
اسمُها «أكسينتشور»
تأسستْ في خمسينياتِ القرنِ الماضي كقسمِ محاسبةٍ صغيرٍ
ثم تحولتْ خلالَ ثلاثينَ عاماً لواحدةٍ من أكبرِ الشركاتِ الاستشاريةِ في العالمِ
ويتخطى دخلُها السنويُّ عشراتِ الملياراتِ من الدولاراتِ
لكنَّ نظرةً أعمقَ على دورةِ حياةِ هذه الشركةِ
نجدُ أنَّ التحولَ لديها بدأَ عندما أصبحَ هدفُها
البحثَ عن الربحِ
بغضِّ النظرِ عن وسائلِ تحقيقِ ذلك
فبدأتْ تبحثُ
عن ضرائبَ أقلَّ
عمالةٍ أرخصَ
وإجراءاتٍ رقابيةٍ غيرَ صارمةٍ
«أكسينتشور» مسجلةٌ كشركةٍ سويسريةٍ قابضةٍ
تتبعُ لها شركاتٌ متنوعةٌ منتشرةٌ حولَ العالمِ
ولديها جيشٌ جرارٌ
يتكونُ من (373 ألف) ثلاثِ مئةٍ وثلاثةٍ وسبعينَ ألفَ موظفٍ
في أكثرَ من مئتيْ مدينةٍ داخلَ خمسةٍ وخمسينَ دولةً
كيف تعمل هذه الشركات؟
تحصلُ هذه الشركاتُ على عَقْدٍ لمشروعٍ في أيِّ دولةٍ
ترسلُ موظفيها دونَ أن تكونَ لهم صفةُ الإقامةِ الدائمةِ هناك
يتمُّ الإشرافُ على العمليةِ من خلالِ مكاتبَ إقليميةٍ في براغ أو دبي
حيثُ قوانينُ الضرائبِ والمحاسبةِ يسيرةٌ أو على هوى الشركةِ
بالتالي نجدُ أن هذه الشركاتِ
تختارُ مقراً قانونياً لها في دولةٍ ما
ليسَ على أساسِ جنسيةِ الشركةِ (إنْ وُجدتْ أصلاً)
ومقراً إدارياً لمسؤوليها وعملياتِها في دولةٍ أخرى
وأصولُها المالية تكونُ في دولةٍ ثالثةٍ
بينما يكونُ هيكلُها الإداريُّ موزعاً بين عدةِ دولٍ أخرى
وكلُّ ذلك يتمُّ تحديدُه
وفقاً للقوانينِ الصديقةِ ووفرةِ المواردِ الطبيعيةِ والبشريةِ الأقلِّ تكلفةً
والبنيةِ التحتيةِ الأفضلِ
كيف تنافس الدول العظمى بدون أسلحة؟
بعضُ هذه الشركاتِ لديها موظفون أكثرَ من سكانِ بعضِ الدولِ
شركاتٌ أخرى يتخطى دخلُ الواحدةِ منها
الناتجَ المحليَّ لدولٍ كبيرةٍ مثلَ روسيا وبلجيكا والسويد
فمثلاً تمتلكُ شركةُ آبل سيولةً نقديةً
تتخطى إجمالي الناتجِ المحليِّ لثلثي دولِ العالمِ غيرِ الغنيةِ
بالتأكيدِ لن تنافسَ هذه الشركاتُ الدولَ الكبرى من خلالِ الأسلحةِ
لكنْ من خلالِ تعاظُمِ نفوذِ هذه الشركاتِ وقدراتِها الماليةِ الضخمة
تستطيعُ أن تتحكمَ في السياساتِ والقوانينِ التي تخدمُ مصالحَها
وتقوِّضُ من سلطاتِ الهيئاتِ التي يُفترضُ أنها تراقبُ أعمالَ تلك الشركاتِ
فالدولُ بحاجةٍ هذه الشركاتِ لتنعشَ اقتصادَها
فلا بأسَ أنْ تغضَّ الطَّرْفَ عن بعضِ سلوكياتِها
لذلكَ نجدَ أنَّ من بينِ أقوى مئتيْ كيانٍ اقتصاديٍّ في العامَ الماضي
هناكَ (157)مئةٌ وسبعةٌ وخمسون هي شركاتٌ وليست دولاً
وفي نفسِ القائمةِ نجدُ أنَّ من بين أقوى مئةِ كيانٍ اقتصاديٍّ
هناكَ تسعةٌ وستون مؤسسةً
ماذا يعني هذا بالنسبة لحياتنا اليومية؟
قد يكونُ كلُّ ما سبقَ بعيدٌ عن حياتِنا البسيطةِ
لكنْ مهلاً
فالثروةُ الهائلةُ للمؤسساتِ العملاقةِ هي السببُ الجوهريُّ وراءَ مشاكلِ العالمِ فهي سببٌ رئيسيٌّ لما يعيشُهُ العمالُ والخريجون الجُدد من قلةٍ في الشواغرِ والأجورِ المتدنيةِ
فعندما يتمُّ صياغةُ قوانينِ العملِ
لا يكونُ الهدفُ هو مصلحةُ العاملِ
فرجلُ الأعمالِ يسعى لقوانينَ مليئةٍ بالثغراتِ
تمكِّنُهُ من فَصْلِ أو تغييرِ أو معاقبةِ العاملِ وحرمانِهِ من حقوقِهِ
بينما العاملُ يريدُ قانونَ عملٍ يضمنُ له تلك الحقوقَ
والحكوماتُ هنا هي الوسيطُ
فإذا كان الوسيطُ (أي الحكومات) أضعفَ من رجلِ الأعمالِ (أي الشركات)
فالنتيجةُ هي ما نراهُ الآنَ:
عمالٌ مطحونون دُهستْ حقوقُهُم لتحقيقِ الأرباحِ للكبارِ، نقاباتٌ عماليةٌ ترفضُ قوانينَ العملِ، غيابُ المسؤوليةِ الاجتماعيةِ للدولةِ
ويعني عدمَ ضمانِ الخدماتِ الأساسيةِ والحياةِ الكريمةِ للمواطنِ ورغم ذلك لا توجدُ وسائلُ فعَّالةٍ أمامَ المواطنينَ لمساءلةِ تلك الشركاتِ
والأدهى من ذلك أن تلكَ الشركاتِ تملكُ النفوذَ الكافي لجعلِ الحكوماتِ تخوضُ المواجهةَ نيابةً عنها فهل تُعيدون معي النظرَ في مفهومِكُمْ لمصطلحِ القوى العظمى بعيداً عن الدولِ والجيوشِ والأسلحةِ؟
يمكنكم متابعة " عربي بوست " علي المنصات التالية
موقع عربي بوست :- [ Ссылка ] - [ Ссылка ]
عربي بوست على فيسبوك :- [ Ссылка ]
عربي بوست على تويتر :- [ Ссылка ]
عربي بوست علي انستجرام :- [ Ссылка ]
Ещё видео!