✍ أكثر ما يغيظ ويبعث على الحنق والغضب، أن تسمع أكاديمياً جامعياً أو مُثقَّفاً، يتحدَّث حديث الجُهَّال! أكثر من هذا؛ أن تسمع مُتخصِّصاً في الفكر الإسلامي أو مَن صار يُسمى داعيةً - ولفظ داعية هذا عجيب - أو مُدرِّس التاريخ الإسلامي في الجامعة، يقول لك ما الفائدة من طرح هاته الموضوعات؟ ﺗِﻠْﻚَ ﺃُﻣَّﺔٌ ﻗَﺪْ ﺧَﻠَﺖْ ﻟَﻬَﺎ ﻣَﺎ ﻛَﺴَﺒَﺖْ ﻭَﻟَﻜُﻢْ ﻣَﺎ ﻛَﺴَﺒْﺘُﻢْ ﻭَﻻ ﺗُﺴْﺄَﻟﻮﻥَ ﻋَﻤَّﺎ ﻛَﺎﻧُﻮﺍ ﻳَﻌْﻤَﻠُﻮﻥَ *. شيء غريب! هذا أكثر ما يغيظني. وأنا أزعم الآن أنه لا تُوجَد أمة مُتحضِّرة على وجه الأرض تُفكِّر على هذا النحو، وأتحدى!
✍ الفيلسوف والمُفكِّر الروسي الكبير نيقولا بيردييف Nikolai Berdyaev في كتابه معنى التاريخ The Meaning of History، لاحظ كما لاحظ غيره أيضاً من هؤلاء الفلاسفة والمُفكِّرين، أن الأمم في لحظات تدليها وانحطاطها ومكروثيتها وتراجعها، يرهف فيها الحس التاريخي، الفكر التاريخي، والحس النقدي للتاريخ. يحدث هذا - سبحان الله - في لحظات الانحطاط! وضرب مثلاً بالقديس أوغسطين Saint Augustine، وقال هذا الرجل - هو طبعاً في القرن الخامس الميلادي - استطاع أن يُشيِّد بناء نظرية شاملة ومُتكامِلة لتفسير التاريخ، ألقت بطابعها وبآثارها على كل مَن تلاه.
✍ أي إنسان درس فلسفة التاريخ يعرف نظرية سانت أوغسطين في تفسير التاريخ، وهي نظرية لاهوتية على كل حال، ولكنها شبه تامة وفق مفروضاتها ومقبولاتها التي تأسَّست عليها! لأن القديس أوغسطين Augustine عاصر انهيار العالم القديم وسقوط روما، وهذا حدث مُروِّع وكبير، أرهف فيه حس التاريخ وفهم التاريخ والماضي وإعادة تفسيره وفق رؤية Vision، لا وفق رواية فقط.
✍ أيضاً الثورة الفرنسية والحروب النابليونية هنا في أوروبا، أرهفت درس التاريخ وحس التاريخ إلى الغاية، وهذا معروف عند كل مَن درس تطور الفكر التاريخي بعد الثورة الفرنسية والحروب النابليونية. ابن خلدون في السياق العربي الإسلامي ذكر الآتي في المُقدِّمة بشكل فاقع وناصع! لماذا؟ الرجل أصبح فيلسوفاً للتاريخ! هو أول فيلسوف تقريباً، إذا استثنينا سانت أوغسطين، وإن كان بشهادة توينبي Toynbee أعظم بكثير منه! ابن خلدون أعظم وأكثر واقعية بل وأكثر علمية من القديس أوغسطين بشهادة أرنولد توينبي Arnold Toynbee في كتابه العظيم دراسة التاريخ.
✍ ابن خلدون ذكر هذا في المُقدِّمة؛ لأنه رأى العالم الإسلام المُترامي الأطراف والمُنداح الجنبات يتقطَّع ويتمزَّق ويتشظى. وبتعبير عبد الرحمن بن خلدون - رحمة الله عليه - كأن الله آذن بطي البساط. شعر كأن بساط هذه الأمة يُطوى! ولاحظ بذكاء وهو المُتوفى في أول القرن التاسع أن الآخر؛ الآخر الغربي الأوروبي، وبالأمس الفرنجي الصليبي، بدأ يتقدَّم وينهض. ابن خلدون لاحظ هذا وسجَّله بذكاء أيضاً.
✍ والسؤال الآن؛ هل نحن بخير؟ لسنا بخير. ومعروف وضع الأمة العربية اليوم ووضع الأمة الإسلامية! لكن لماذا لا نرى لدينا حساً مُرهَفاً بالتاريخ؟ عجيب! هذه النظرية صحيحة دقيقة، وكل دارسي التاريخ يُقرِّرونها في العصر الحديث ويُصادِقون عليها، فما بالها لا تنطبق على الأمة؟ لماذا لا تنطبق هذه النظرية علينا؟ أنا أقول لكم لماذا! لأن الذين أرادوا وأُريدَ لهم أن يتصدَّروا المشهد، وأن يُقال هم دعاة الخير في هذه الأمة وهم الذين يجب أن تستعيروا عقلهم ورأيهم ومنظورهم في الفهمِ والانطلاق والسلوك، جماعة مُغفَّلين، ببساطة! لا علاقة لهم بالتاريخ ولا بدرسه، وهم أعجز من أن يفهموا التاريخ أصلاً!
✍ هل تعرفون لماذا؟ لأنهم يُحرِّمون دراسته أصلاً، ويُفتون بوجوب إعدام وثائقه وبيِّناته، ويقولون يجب أن تُعدَم وتُطوى، ممنوع أن تظهر للناس، ممنوع أن تُدرَس، ممنوع أن تُحقَّق. شيء غريب! ألم أقل لكم هذا؟ هذه أمة غريبة، وتُفكِّر على نحو غريب جداً! ليس لها نظير في هذا التيه والضياع! هذا يُقلِق، يِقلِق كل مُفكِّر وكل مُثقَّف حقيقي، لا يجد له نظيراً! ولكن لماذا أيضاً - الجواب هذا ليس كافياً - كان الأمر على هذا النحو؟ هل تعلمون لماذا؟ لأنهم لا يشعرون ولا يألمون! لا يشعرون بحجم انحطاطهم، ويقولون لا، الأمة ليست مُنحَطة إلى تلكم الدرجة التي تظنون! الأمة في صحوة مُمتازة، طالما تحجَّبت النساء أو انتقبن، والتحى الرجال، وأموا المساجد، وأخذوا المساويك، وحافظوا على الشعائر والطقوس، وسبَّحوا بحمد السُلطان! الأمة مُمتازة وليس بينها وبين أن تُصبِح كجيل الصحابة، إلا خُطوات يسيرة. هل هذا هو مشروعكم؟ هذا مشروعنا. هكذا هم يعرضون! هذا هو مشروعنا، ماذا تُحِبون أكثر من هذا؟
✍ وهل تعرفون لماذا أيضاً مرة أخرى؟ لأن هؤلاء غائبون ومُغيَّبون، ضائعون ومُضيِّعون! هؤلاء لا علاقة لهم بالعالم الآخر، هؤلاء لا يرون كيف يعيش الناس وكيف يُفكِّر الناس! حتى الأجيال الشابة الآن، من الشباب والشواب في الأمة العربية والإسلامية، هؤلاء لا علاقة حقيقية لهم بهم، لا يعرفون كيف يُفكِّر هؤلاء، لا يعرفون العالم الوسيع المُنداح الذي انفتح عليه أبناؤنا وبناتنا في الفكر والأدب والثقافة والفن والسياسة، لا يعرفون!
◀ مُستخلَص من خطبة وعينا التاريخي كم هو بائس! للدكتور #عدنان_إبراهيم:
[ Ссылка ]
Ещё видео!